ربما أعطاك فمنعك وربما منعك فأعطاك
بقلم د. أيمن الجندى ٢/ ٣/ ٢٠١١
يحتجب الغيب عنا. يُسْدل أستاره الكثيفة. يرتدى ألف قناع وقناع. يصمتُ كشفاه مُغْلقة. يُلغز كنقوش المعابد القديمة. فيما الإنسان الخائف مما قد يأتى به الغد، يلجأ إلى العرّافين، يستوحى النجوم، يتوسل للأولياء، يدق على الجدار الأصم، مشفقا مما يأتى به قادم الأيام.
■ ■ ■
أبريل ١٩٧٥
ترى ما الذى شعر به مبارك حين تلقى ذات صباح باسم مكالمة هاتفية من رئاسة الجمهورية تدعوه إلى لقاء الرئيس!، كان جرس الهاتف يدق كشفْرة سرية، كرسالة من الأقدار. أخبره مسؤول الرئاسة بأن السادات يرغب فى حضوره بالملابس المدنية. تلقى البشارة بتفاؤل مفتوح على جميع الاحتمالات. سألته زوجته عن المكالمة فرد بقلب خافق أن الرئيس استدعاه. آه لو يعينه سفيرا فى لندن كما يتمنى، أو رئيسا لشركة مصر للطيران. ربما لذلك طلبوا حضوره بالملابس المدنية. كان الصباح مشرقا يبعث على التفاؤل، والربيع ينفث سحرا، والغيب المحجوب يتكشّف رويدا عن أجمل الأمنيات.
..............
القصر الرئاسى
اطمأن قلبه حين صافحه السادات بحرارة. سوّلت له الأحلام أن منصب السفير على وشك التحقق. أحيانا يُومئ الغيب إلى جانب من السر، ثم يعاود الاحتجاب. حينما فاجأه السادات بتعيينه نائباً للرئيس زلزلته المفاجأة، فقد ثباته التقليدى، وقال له إن منصب السفارة كان أقصى أمانيه. راح السادات يضحك مسرورا، سعيدا باللمسة المسرحية، وهو يدخن الغليون.
■ ■ ■
مثل علب الهدايا المغلقة تَكَشّف الغيب عن منصب نائب الرئيس. ترى ما الذى شعر به وهو يعود إلى المنزل؟ لابد أن زوجته استقبلت النبأ بالرهبة، وأولاده استقبلوه بالفرحة. لابد أنه اعتبر هذا اليوم هو أسعد أيامه على الإطلاق. فهل كان ذلك اليوم هو أسعد أيامه حقا؟ هل كان اختياره للمنصب نقمة تتخفى فى ثوب النعمة؟ فتنة ترتدى الزينة الملونة؟ سماً زعافاً مُغلّفاً بالحلوى؟ شراً يتظاهر بأنه خير؟
حين مات السادات وأصبح رئيس الجمهورية لم يتوقف ليتساءل، أو يراجع نفسه وما صار إليه. استغرقته الدنيا، شغلته الثروة، فتنته القوة، أعجبه النفوذ. أصبح المعبود الأوحد الذى يُشعل من أجله البخور وتُقدم إليه القرابين.
ثم كان ما كان. الآن يتساءل: ألم يكن أفضل له ألا يدق هذا الهاتف على الإطلاق؟! ألم يكن الأفضل له أن يُحال إلى المعاش؟! يجلس فى الشرفة، يقرأ الجرائد، يتحمم بالشمس، يغتسل بالندى، يتجفف بالنور، ينعم بمداعبة أحفاده خالى البال. ليته لم يصبح رئيسا للجمهورية! ليته لم يغادر الدنيا بمظالم ودماء، وشعب يلعنه، ومنافقين انقلبوا عليه، ومال حرام.
الآن يعرف أن اليوم - الذى عدّه أسعد أيامه - كان أسوأها على الإطلاق.
■ ■ ■
آه أيها الغيب المحجوب عنا بإرادة علوية. ترى ما المكتوب لنا فى صحائفك الغيبية؟ يحتجب الغيب فى علم الله، يهمس لنا بلسان الحكمة: «لا تفرح بشىء. لا تحزن على شىء. ربما أعطاك فمنعك! وربما منعك فأعطاك!».